بدلاً من أن تكون الحقيبة المدرسية هي الرفيق، أصبحت “المناديل الورقية” أو “عبوات البخور” هي الأداة التي يحملها أطفال لم يتجاوزوا العاشرة في ميادين عديدة في القاهرة والإسكندرية الكبرى. هذه الظاهرة لم تعد مجرد حوادث فردية لخطف الأطفال او نتيجة لفقر عابر، بل تحولت إلى “نمط حياة” تفرضه بعض الأسر على أطفالها، مستغلة عواطف المارة تجاه براءة الطفولة. حيث تزداد يوماً عن يوم ملاحظة وجود أطفال يعملون أو أو يقدّمون خدمات هامشية (مسح زجاج، بيع مناديل/مياه، حمل مشتريات، جمع تبرعات) عند إشارات المرور بصحبة أحد الوالدين (غالبا أم أو قريبة) أو أي أحد أفراد الأسرة. وهذه الظاهرة لا يمكن اختزالها في “سلوك فردي”، لأنها تتغذّى من خليطٍ متداخل من الفقر، وتسرّب التعليم، والعمالة غير الرسمية، وضعف الحماية الاجتماعية، وأحياناً استغلال منظم. وهي في جوهرها “مؤشر خطر” على سلامة الطفل وحقوقه، وعلى الأمن المروري، وعلى كرامة الأسرة والمواطن المصري بشكل عام.
أولاً: الأبعاد القانونية (بين الحماية والتجريم)
يضع القانون المصري ضوابط صارمة لحماية الطفل، إلا أن الفجوة تكمن في “التنفيذ” وتوصيف الجريمة. قانون الطفل المصري (رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون 126 لسنة 2008 يعتبر الطفل في “حالة خطر” إذا كان يمارس التسول أو يبيع سلعاً تافهة في الشوارع
مادة ( 96 )
يعد الطفل معرضاً للخطر إذا وجد في حالة تهدد سلامة التنشـئة الواجـب توافرهـا لـه وذلـك فـي أي مـن الأحوال الآتية:
١. إذا تعرض أمنه أو أخلاقة أو صحته أو حياته للخطر .
٢. إذا كانت ظروف تربيته فـي الأسـرة أو المدرسـة أو مؤسسـات الرعايـة أو غيرهـا مـن شـأنها أن تعرضه للخطر أو كان معرضاً للإهمال أو للإساءة أو العنف أو الاستغلال أو التشرد
٣. إذا حرم الطفل ، بغير مسوغ ، من حقه ولو بصفة جزئية في حضانة أو رؤية أحد والديه أو من لـه الحق في ذلك.
٤. إذا تخلي عنه الملتزم بالإنفاق عليه أو تعرض لفقد والديه أو أحدهما أو تخليهمـا أو متولي أمره عن المسئولية قبله
٥. إذا حرم الطفل من التعليم الأساسي أو تعرض مستقبله التعليمي للخطر .
٦. إذا تعـرض داخـل الأسـرة أو المدرسـة أو مؤسسـات الرعايـة أو غيرهـا للتحريض على العنف أو الأعمال المنافية للآداب أو الأعمـال الإباحية أو الاستغلال التجاري أو التحرش أو الاستغلال الجنسي أو الاستعمال غير المشروع للكحوليات أو المواد المخدرة المؤثرة على الحالة العقلية .
٧. إذا وجد متسولاً ، ويعد من أعمال التسول عرض سلع أو خدمات تافهة أو القيام بألعاب بهلوانية وغير ذلك مما لا يصلح مورداً جدياً للعيش .
٨. إذا مارس جمع أعقاب السجائر أو غيرها من الفضلات والمهملات
٩. ا ذا لم يكن له محل إقامة مستقر أو كان يبيت عادة في الطرقات أو في أماكن أخـرى غيـر معدة للإقامة أو المبيت .
١٠. إذا خالط المنحرفين أو المشتبه فيهم أو الذين اشتهر عنهم سوء السيرة
١١. إذا كان سيء السلوك ومارقاً من سلطة أبيه أو وليه أو وصيه أو متولي أمره ، أو من سـلطة أمـه في حالة وفاة وليه أو غيابه أو عدم أهليته
١٢. إذا لم يكن للطفل وسيلة مشروعة للتعيش ولا عائل مؤتمن
إذا البنود ١ و ٧ و ١٢ ينطبقان على حالات تسريح الأطفال في الشوارع ومع ذلك تلك الجرائم تمارس آلاف المرات في شوارعنا دون رادع او حتى مجرد لفت انتباه.
قانون العقوبات وقانون مكافحة الاتجار بالبشر (رقم 64 لسنة 2010 ينص على أن استغلال الأطفال في التسول أو العمل القسري يُصنف كأحد أشكال الاتجار بالبشر، وتصل عقوبته إلى السجن المشدد لمدة لا تقل عن 5 سنوات وغرامة تصل إلى 200 ألف جنيه، خاصة إذا كان الجاني هو الولي الطبيعي (الأب أو الأم).
مادة (۲) – تعريف مرتكب جريمة الاتجار بالبشر
يعد مرتكبا لجريمة الاتجار بالبشر كل من يتعامل بأية صورة في شخص طبیعی بما في ذلك البيع أو العرض للبيع أو الشراء أو الوعد بهما أو الاستخدام أو النقل أو التسليم أو الإيواء أو الاستقبال أو التسلم سواء في داخل البلاد أو عبر حدودها الوطنية –
إذا تم ذلك بواسطة:
استعمال القوة أو العنف أو التهديد بهما،
أو بواسطة الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع،
أو استغلال السلطة،
أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة،
أو الوعد بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا مقابل الحصول على موافقة شخص على الاتجار بشخص آخر له سيطرة عليه،
وذلك كله إذا كان التعامل بقصد الاستغلال أيا كانت صوره، بما في ذلك:
الاستغلال في أعمال الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسي،
واستغلال الأطفال في ذلك وفي المواد الإباحية،
أو السخرة أو الخدمة قسرا،
أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد،
أو التسول.
والاهم انه قانوناً، يُعد تعريض الطفل للخطر وتوجيهه للشارع سبباً كافياً لإسقاط الولاية التعليمية أو الحضانة عن الأهل لعدم أمانتهم على تنشئة الطفل.
ومع ذلك، التحدي الحقيقي ليس في وجود نصوص، بل في كيفية تطبيقها دون إيذاء الأسرة أو دفعها لمزيد من الهشاشة. فأي تدخل “أمني صرف” قد يؤدي إلى نتيجة عكسية إذا انتهى بمصادرة مصدر الدخل الوحيد للأسرة دون بديل، أو بتفكيك الأسرة دون مسار حماية اجتماعية واضح. لذلك، المطلوب هو إنفاذ ذكي قائم على مسارين متلازمين:
(١) حماية الطفل فوراً من الخطر والاستغلال، و
(٢) توفير بدائل اقتصادية وتعليمية للأسرة تمنع العودة.
ثانياً: لماذا يرافق الأطفال ذويهم في الشارع؟
لا يخرج الطفل إلى إشارة المرور منفرداً في الغالب؛ بل يكون جزءاً من “منظومة أسرية في وجود الطفل مع الأم أو الأب يضاعف الحصيلة اليومية من “الإحسان” مقارنة بالمبالغ وحده. والأخطر فإن التسرب من المدارس يجعل الشارع هو الخيار السهل، و بالتدريج يصبح الخيار الوحيد المتاح لاكتساب “رزق يومي” سريع. واخيراً، وجود الطفل في تقاطعات مزدحمة يضاعف احتمالات الدهس والإصابة، ويعرّضه لاعتداءات أو استغلال أو احتكاك يومي بالغ الشدة. كما أن طبيعة العمل في الإشارات غالباً “لحظية” مرتبطة بالازدحام، ما يدفع الطفل للمجازفة بالاقتراب من السيارات. هذا فضلاً عن أثر نفسي خطير يمتد ليشمل:
١. تطبيع العنف اللفظي،
٢. الاعتياد على الإهانة أو الخوف،
٣. انخفاض تقدير الذات،
٤. وتكوين صورة ذهنية مبكرة بأن الشارع هو مجال العمل الطبيعي.
ثالثاً: حلول استراتيجية مقترحة أمام الدولة
لا يمكن القضاء على هذه الظاهرة بالمطاردات الأمنية وحدها، بل يتطلب الأمر نهجاً متكاملاً:
١. إنشاء وحدات متنقلة تضم (أخصائي اجتماعي + ضابط أمن + ممثل عن المجلس القومي للطفولة). مهمة هذه الوحدات ليست “القبض” بل “الرصد والإحالة”، حيث يتم التحقق من هوية الطفل وأهله وربطهم فوراً بقاعدة بيانات التضامن الاجتماعي.
٢. ربط استمرار حصول الأسر الفقيرة على معاش “تكافل وكرامة” بشرطين صارمين:
- نسبة حضور مدرسية لا تقل عن 80%.
- عدم ضبط أي طفل من أفراد الأسرة في حالة “تسول أو عمل بالشارع”. في حال المخالفة، يتم تعليق الدعم واستبداله بـ “تأهيل إلزامي” للأهل.
٣. على الدولة والجمعيات الأهلية توفير مراكز استضافة نهارية في المناطق العشوائية والأكثر فقراً، حيث يمكن للأهالي ترك أطفالهم في بيئة آمنة (تعليمية وترفيهية) أثناء ساعات عملهم، مما يسحب الذريعة من “اصطحاب الأطفال للشوارع”.
٤. تجريم “المحرض” والمستفيد وفرض غرامات مالية وعقوبات رادعة للأهل وقد يشمل ذلك ايضاً تعديل بعض المواد القانونية ليكون “استغلال الطفل في الإشارات” جريمة مخلة بالشرف للأب أو الأم، مع تفعيل أحكام العمل الإلزامي للأهل في مشروعات الخدمة العامة بدلاً من السجن الذي قد يزيد الأسرة فقراً.
٥. وجود قاعدة بيانات موحّدة الحالات المضبوطة يتم مشاركتها مع الوزارات المعنية مثل التضامن الاجتماعي وتشمل تلك القاعدة رقم تعريفي للحالة، تتبّع التدخلات، منع تكرار “الالتقاط والإفلات”، وقياس معدلات العودة للشارع. وقد يشمل ذلك ايضاً وضع مؤشرات أداء للمحافظات (انخفاض الأطفال في التقاطعات، عدد الأسر المُدخلة في مسارات دعم، نسب العودة للمدرسة.
٦. تفعيل حملات وعي المواطن”لا تدفع الطفل” فالمواطن شريك في الجريمة بـ “حسن نية”، فدفع المال للطفل في الإشارة هو وقود لاستمراره في الشارع. وعليه، يجب تدشين حملات إعلامية مثلاً تحت شعار “جنيه يحرمه من مدرسته”، لتشجيع الناس على توجيه تبرعاتهم للمؤسسات الرسمية التي ترعى هؤلاء الأطفال.
إن تشغيل الأطفال في إشارات المرور هو صرخة في وجه الضمير الجمعي والقانوني. إن “التكامل القانوني” الحقيقي يبدأ من حماية أضعف حلقات المجتمع، والطفل في الشارع ليس مجرد مشكلة أمنية، بل هو “مشروع مواطن” قد يضيع منا إذا لم تتدخل الدولة بحلول جذرية تجمع بين الحماية الاجتماعية والردع القانوني.
أعدته للنشر: وحدة الأبحاث في “التكامل القانوني” (AIO Legal Services )
للتواصل: info@aiolawyers.com

Leave a Reply