المساواة أمام القانون في الشريعة الاسلامية والفكر الليبرالي والماركسي

 

شكلت فكرة المساواة عبر التاريخ هيكلاً احتوى جميع الأفكار الإنسانية، فقد حاول الفلاسفة والمفكرون في الماضي تقريب هذه الفكرة إلى الواقع العملي وفقاً لمفاهيمهم الفكرية، دون إرساء لتطبيقها وفقاً لمعايير موضوعية واضحة ومنطقية، مما أضفى على محتواها القانوني غموضاً واضحاً، إلاّ أن أغلب الكتاب المعاصرين قد أثبتوا أن مبدأ المساواة أمام القانون في الفكر الليبرالي وفي الفكر الماركسي وفي الشريعة الإسلامية.

مبدأ المساواة أمام القانون في الفكر الليبرالي

يستند مبدأ المساواة في الفكر الغربي على أساس أيديلوجي من المذهب الفردي الوثيق الصلة بالقانون الطبيعي، ويعزى هذا المبدأ في نشأته إلى الثورة الفرنسية التي لخصت شعاراتها في ثلاث كلمات : الحرية والمساواة والإخاء. والمساواة التي يقصدها المذهب الفردي هي المساواة المدنية وليست المادية أو الاقتصادية؛ وذلك لأن الرأسمالية (الليبرالية) مبنية على فكرة أساسية هي عدم تدخل الدولة بالشؤون الاقتصادية وأن يقتصر دور الدولة الرأسمالية على تشريع القوانين لحماية الأفراد الذين يتساوون في التكليف أمامها.

وقد استعمل مبدأ المساواة في الدول الغربية في الفترة الواقعة منذ قيام الثورة الفرنسية وحتى منتصف القرن التاسع عشر للدلالة على مساواة ذات قيمة تشريعية عليا، وإن كانت فاعليته القانونية محدودة مثل بقية الحقوق والحريات. وأخذ مبدأ المساواة شكل القوانين الوضعية، ولكن لم يظهر حتى ذلك الوقت التمييز بين المساواة في القانون والمساواة أمام القانون.

ويرى الفقيه Tocquville أن هناك نقطة في الذروة تلتقي فيها المساواة مع الحرية وتندمجان معاً.  وقد حاول بعض الفقهاء البحث عن هذه النقطة الموجودة في الذروة، إذ اعتقد الليبراليون التقليديون أن المساواة أمام القانون هي المحرك للحرية وليست التي تؤدي إلى المساس بها. فالقانون يجب أن لا يخلق عدم مساواة مصطنعة، أي أن لا يعطي البعض امتيازات عن البعض الآخر، إنما يفتح المجال أمام الجميع لكي يبرز كل واحد مواهبه الشخصية، وإذ أدى ذلك إلى عدم مساواة طبيعية لا يملك المرء أن يغير فيها شيئاً لأنها شرعية.

 

بعد إنشاء كرسي لتدريس مادة القانون الدستوري في جامعة السوربون في باريس عام 1834 وبنصيحة من الفقيه Pellegrin Rossi، أصبحت المساواة نقطة رئيسة في القانون العام، وانتهت حقبة تاريخية للقانون العام، وبدأت حقبة تاريخية جديدة حلت فيها الحقوق العامة محل المزايا وأصبحت المساواة تعبر عن حقيقة العلاقات بين الأشياء مع بعضها والأشخاص مع بعضهم.

بعد منتصف القرن التاسع عشر، أخذ مسار القانون العام يأخذ طابع الوضعية، بحيث أصبحت جميع المواضيع القانونية تنظم بموجب القانون الوضعي بمعناه الشكلي، وقد برز بوضوح من خلال هذا المسار التمييز بين القانون العادي والقانون الدستوري، رغم أن نطاق كل منهما لم يتحدد بوضوح بسبب فقدان الفاعلية القانونية للقانون الدستوري وغياب آلية محددة للرقابة على دستورية القوانين أو على أعمال البرلمان بشكل عام. وأصبح معنى المساواة أمام القانون يفسر مخاطبة القانون للأفراد بلا تمييز، فإذا كان الفرد عضواً في المجتمع المدني، مهما كان أصله أو اعتقاده أو ثروته، فإن له الحقوق المقررة في القانون العام والقانون الخاص، كما أن الفرص متاحة أمام الجميع، وكل واحد باستطاعته أن يتحرك حسب قدرة الوسائل المتوافرة لديه، وبذلك فقد تحققت المساواة المدنية.

وتوجد المساواة حيث يكون هناك مجال محايد في وسط قانوني كامل يخلقه القانون، لا تخضع فيه حركة العناصر والأفراد إلاّ لطاقاتها الذاتية، أما الامتيازات فهي تخلق مجالات مصطنعة.  كما أن المساواة مبدأ محدد وثابت ومحصلة لجميع الحقوق العامة، ويمكن أن يعلو أو يهبط في مجتمع محدد حسب ظروف هذا المجتمع.  وإذا تم الاعتراف بحق جديد فإنه يتوجب أن يتم الاعتراف به للجميع وأن توزع ضمانات الحق على الجميع، وتستطيع المساواة المدنية أن تتلائم مع أنظمة اجتماعية مختلفة، وتوجد في كل مكان حسب وجود القانون، ومهما كان نطاق الحقوق سواء كان واسعاً أم ضيقاً فإذا كان موحداً فإن المساواة لا يمسها اعتداء.

يميز الفقيه ايسمان بين إعلان حقوق الإنسان في فرنسا، كإعلانات ليست إلاّ بيانات لمبادئ فلسفية وأخلاقية دونما قيمة قانونية، وبين ضمانات الحقوق وهي قوانين وضعية وملزمة لها وفي نظره قيمة قانونية. وهذه الأخيرة هي قواعد دستورية  تؤمن للمواطنين ممارسة الحقوق ولها قيمة أعلى من القوانين العادية وتقيد السلطة التشريعية وتحدد سلطاتها، وتتميز ضمانات الحقوق عن إعلان المبادئ ليس فقط من حيث المحتوى وإنما من حيث مكانها وهو الدستور، ولكن ضمانات ممارسة الحقوق تتطلب تنظيم مسبق من المشرع وإلاّ لن تكون لها قيمة أعلى من التشريع العادي.

كما يميز ايسمان في إطار المساواة المدنية بين المساواة أمام القانون والمساواة أمام القضاء والمساواة في تولي الوظائف العامة والمساواة أمام الضرائب، وإن كانت المساواة أمام القانون تستوعب الأخريات الثلاث.  وقد اعتبر ايسمان المساواة أمام القانون أحد الحقوق الفردية وبحاجة إلى تنظيم قانوني مسبق، وتفرض على كل قانون الشكل المنطقي المستقل لمحتواه : وهو العمومية والتجريد، وبذلك فإن المساواة أمام القانون وتعريف القانون المادي مندمجان ولا يمكن فصلهما. وقد عرف ايسمان القانون بالمعنيين الشكلي والمادي: بأنه القرار المتخذ من قبل البرلمان طبقاً لاختصاصه، أما إذا كان عمل البرلمان من حيث، المضمون خاصاً ولمدة محددة فهو ليس بقانون.

الفقيه كاري دي مالبيرج يعرف القانون بأنه تعبير عن الإرادة العامة، وهذا ما قال به من قبل جان جاك روسو بأن القانون عمل كل الشعب ويقرر من أجل الشعب او على كل الشعب .

ويرى كاري دي مالبيرج أن تعبير الإرادة العامة يعني إرادة عموم المواطنين، ومن أجل تأسيس عمومية القانون، يجب أن يكون القانون واحداً بالنسبة للجميع.  وهذا الحكم يكون له في مواجهة المشرع قيمة أوامر سياسية، وفيما يتعلق بالمساواة فإنها تقع خارج نطاق الحقوق بمعناها الدقيق.

نلاحظ أن رأي كاري دي مالبيرج يؤدي إلى غياب الرقابة عن أعمال البرلمان لأنه يعبر عن الإرادة العامة بواسطة القانون، كما أن وضع المساواة خارج نطاق الحقوق يجعلها خارج نطاق القانون ويزيل الصفة القانونية عنها .

الفقيه موريس هوريو، على خلاف كاري دي مالبيرج، يرى أنه في ظل دستور وطني لا تستطيع سلطة ما تدعي أنها صاحبة سيادة، فكل سلطة مفوضة قابلة للرقابة، وحيث أنه ثبت أن البرلمان يشكل أحياناً خطراً على الحقوق والحريات الفردية أكثر من السلطات الإدارية، فإن المستقبل سيعطي الاختصاص للقضاء للرقابة على دستورية القوانين لأنه أكثر فعالية.  فيما يتعلق بمبدأ المساواة، فإن خصوصية هذا المبدأ أدت إلى بروز تقليد يتمثل بالفصل بين المساواة والحرية، هذا الفصل يمكن تلخيصه من وجهة نظر طبيعتهما القانونية: فالحريات حقوق فردية بل حقوق عامة شخصية، هذا الطابع لا تتصف به المساواة التي هي دوماً قاعدة موضوعية.

ويرى هوريو أن مبدأ المساواة يختلف عن الحرية الفردية، حيث يستند الأول إلى أفكار موضوعية مستمدة من أصل ديني أو غير منظور، في حين تستند الحرية إلى مشاعر شخصية قوية كما أن المساواة عبارة عن فكرة، وهي ليست حق فردي منظم بذاته إنما يتم تنظيم كل المجتمع لكي تتم ممارستها؛ إذ لا يوجد بين الأفراد مشاعر شخصية قوية بالمساواة تؤدي إلى تحريك إرادة الأفراد، لا بل يشعر الأفراد بقوة عناصر الاختلاف التي تفرقهم ويضعف العوامل المشتركة التي تجمعهم في حين أن الحرية بطبيعتها أرستقراطية وغير متساوية فهي تقوم أساسا على مشاعر بالسمو وتتحول بالطبيعة إلى مزايا ثم إلى احتكار، فالحرية الاقتصادية وحرية العمل والملكية تولد الاحتكار. والإحساس الطبيعي الوحيد الذي يتعلق بالمساواة هو الغيرة من الأشخاص الذي هم في نهاية السلم الاجتماعي تجاه الذين هم في أعلى السلم الاجتماعي، وتدفعهم تلك الغيرة إلى السعي نحو قلب الأوضاع كاملة(12).

ولقد كان فكر الفقيه هوريو في البداية أساس النظرية التقليدية لمبدأ المساواة أمام القانون، حيث كان يرى أن المساواة تتحقق عن طريق العمومية التي يحققها القانون، فالناس متساوون أمام القانون المكتوب وذلك لأن القانون يؤسس ويفرض هذه المساواة، وبذلك تندمج فكرة المساواة بالقانون ويبدو عندها مبدأ المساواة وكأنه فتحاً عصرياً في حين أن المساواة قديمة قدم القانون.

لقد وضع موريس هوريو مبدأ المساواة أمام القانون في إطار طبيعة الدولة الحديثة، إذ تفترض المساواة أمام القانون الاحتكار الرسمي أو المركزية المطلقة من قبل السلطات العامة في خلق الحقوق ذات الطبيعة العليا ولك تنظيم قانوني وإداري. ويثير هذا الاندماج لمبدأ المساواة بالقاعدة القانونية بشكل عام التساؤل حول إمكانية تعريف القانون بعموميته ووجود الاستقلال القاعدي لمبدأ المساواة وضرورة صدور القرارات الفردية استناداً إلى قواعد عامة؟.

ولكن في مرحلة تاريخية لاحقة أعاد الفقيه موريس هوريو النظر في موقفه، فقد عرف القانون بأنه قاعدة عامة نظامية، ويؤكد أن عمومية القانون تؤدي إلى طابعه كقاعدة عامة واحدة للجميع، ولكن المساواة لا تتحقق بواسطة العمومية إلا إذا وجدت كل حالة فردية أساسها القانوني في قاعدة عامة وبشكل كامل ومنتظم.  كما أن الاستقلال القاعدي لمبدأ المساواة أمام القانون لا يوجد إلا إذا كان هناك تنظيم قانوني مسبق بحيث يكون أساس الادعاء أمام القضاء، في حالة خرق هذا المبدأ، هو إلغاء قرار إداري خالف القوانين والأنظمة التي تنظم المبدأ.  كما يجب أن يكون النظام القانوني بشكل هرمي، بحيث يخضع القرار الفردي لنظام مسبق والاخر يجب أن يخضع بدوره إلى قانون مسبق.

ويرى الفقيه الفرنسي ديجي أن عمومية القانون نابعة من طابعه كقاعدة اجتماعية، بمعنى أنه يعبر عن النظام الاجتماعي المبني على استقلال الأفراد الذين يعيشون في المجتمع. وهناك ارتباط بين عمومية القانون ومبدأ المساواة أمام القانون، فكل قاعدة قانونية تعتدي على المساواة فإنها تعتدي على حقوق الأفراد.  ومن هنا فإن العمومية شرط ضروري للمساواة ولكنه شرط غير كاف، إذ يمكن للقانون أن يخرق مبدأ المساواة، ولكن هذا القانون يكون إما ضد مبدأ قانوني أعلى من القانون، أو ضد إعلان حقوق الإنسان، أو ضد أحكام القانون الدستوري الجامد.  إن مبدأ المساواة هو أحد مبادئ إعلان الحقوق، ويفرض الإعلان على المشرع بأن يكون القانون واحداً لجميع الأفراد، والمساواة تفرض نفسها في القانون نفسه طبقاً لروح الإعلان.

ويرى الفقيه ديجي أيضاً، أن مبدأ المساواة عبارة عن قاعدة في القانون العام الفرنسي، ويفرض المبدأ نفسه على المشرع، ولكن يجب فهم هذا المبدأ بمعنى القاعدة التي تحمي الأفراد بواسطة القانون، وإنها تتعلق بمساواة نسبية وليست مطلقة.

في بداية القرن العشرين أعطى مجلس الدولة الفرنسي تعريفاً مادياً لمبدأ المساواة، فقد قرر بأن تتم معاملة المحكومين، الذين هم في نفس الأوضاع، بالتساوي بلا تفضيل ولا محاباة.  وهذا يعني أنه أخذ بالمساواة النسبية وليست المطلقة.

مما سبق نلاحظ أن مبدأ المساواة قد جاء في إعلان الثورة الفرنسية عام 1789 وأخذ مضمونه شكل المساواة المطلقة، وبعد منتصف القرن التاسع عشر بدأ مضمونه بأخذ شكلاً آخر هو المساواة الحقيقية أو النسبية تطبيقاً لمقولة قديمة فحواها : المساواة بين الأشياء المتساوية وعدم المساوة بين الأشياء المختلفة.

 مبدأ المساواة أمام القانون في الفكر الماركسي

 

بيّنّا فيما سبق أنه قد أعلن عن مبدأ المساواة في المجتمعات الليبرالية، مثل بقية المبادئ الديمقراطية، قبل مجيء الاشتراكية.  ويتطلب هذا المبدأ عدم منح امتيازات لبعض الأفراد لأن المزايا تؤكد الاحتكار وعدم المساواة، وقد تعرض الفكر الليبرالي في الغرب لأزمات حادة بسبب احتكار بعض الطبقات في المجتمع لبعض الحقوق والحريات، مما ولد الشعور لدى بعض طبقات الشعب المحرومة بعدم قدرة المذهب الليبرالي على معالجة تلك الأزمات. وأمام هذه الظروف ظهرت بعض النظريات التي حاولت وضع حلول ملائمة لوقف الاحتكار واستغلال الإنسان للإنسان، وسميت هذه النظريات بالنظريات الاشتراكية. واستعمل مصطلح الاشتراكية لتبرير تدخل الدولة في النشاط الفردي، على خلاف المذهب الليبرالي الذي يحد من تدخل الدولة في النشاط الفردي. وتتدرج هذه النظريات من الماركسية في أقصى اليسار إلى المذهب الاجتماعي في أقصى اليمين.

ويعنينا هنا المقصود بمبدأ المساواة في الفكر الماركسي، وذلك لأن الماركسية هي المذهب الوحيد من المذاهب الاشتراكية الذي اتخذته بعض التنظيمات السياسية أساساً لتشييد بنيانها الاقتصادي والسياسي .

تعد الماركسية مذهباً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً متكاملاً وضع أسسه الفيلسوف كارل ماركس وزميله فردريك انجلز.  ويطلق على المذهب الماركسي الاشتراكية العلمية الثورية، التي تهدف في الجانب الاقتصادي منها إلى القضاء على النظام الرأسمالي ونظام الطبقات بتملك الدولة لوسائل الإنتاج، لأن تاريخ المجتمعات قائم على الصراع بين الطبقات التي تسعى كل منها إلى استغلال الأخرى، فينشأ الصراع فيما بينها إلى أن تنهار الطبقة المستغلة وتسود طبقة أخرى.  ويستمر هذا الصراع إلى أن يظهر المجتمع اللاطبقي، فالجانب الاقتصادي في الماركسية يقوم على بيان صور الاستغلال الاقتصادي الذي عاصره ماركس، مما دفعه إلى الدعوة إلى إنهاء الملكية الخاصة لعناصر الإنتاج والاستعاضة عنها بالملكية الجماعية. أما الجانب السياسي فيقوم على التنبؤ بحتمية التغير الاجتماعي نتيجة لتفاقم تناقضات النظام الرأسمالي على نحو يدفع بالكادحين إلى الاستيلاء على السلطة لتؤدي رسالتها في إنهاء استغلال الإنسان للإنسان وإنهاء عهد الحاجة.

تهدف الماركسية إلى تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد بالقضاء على التفاوت الطبقي، كما تعمل على توزيع الإنتاج على الأفراد الذي سيكون في البداية على أساس مبدأ لكل حسب طاقته ثم بعد ذلك على أساس لكل حسب حاجته، وبذلك يتم القضاء على التنازع بين الأفراد وعلى المنافسة بينهم وعلى الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها النظام الليبرالي(22). ولكن أنصار الفكر الليبرالي يرون، كما بينا سابقاً أن المساواة فكرة، وأن التجربة والعقل يبرهنان بوضوح على أن الناس ليسوا متساوين، ومع ذلك تقيم الماركسية مثلها الأعلى على المساواة وبذلك تتعارض مع التجربة والعقل .

ولكن دعاة الماركسية يدحضون ذلك بالقول أن التجربة والعقل يبرهنان أن الناس ليسوا متساويين، ولكن ذلك من ناحية المساواة في القدرات أو التماثل في القوة الجسدية والقدرة العقلية وهذه ليست لها علاقة بالماركسية.

ويفرق دعاة الماركسية بين نوعين من المساواة : المساواة السياسية التي تعني الحقوق المتساوية، والمساواة الاقتصادية التي تعني إلغاء الطبقات. أما فيما يتعلق بالمساواة الإنسانية بمعنى المساواة في القوة والقدرات الجسدية والعقلية فالاشتراكيون لا يفكرون إطلاقاً بها. والمساواة السياسية بالنسبة للماركسية هي المطالبة بالحقوق السياسية المتساوية لكافة المواطنين في بلد ما ممن بلغوا سناً معيناً ولا يعانون من مانع ما، وهذا المطلب تقدمت به الليبرالية وتشترك بذلك مع الماركسية، ويفرق الماركسيون بين المساواة بمعنى الحقوق المتساوية والمساواة بمعنى المساواة في القوة والقدرات، ويعيب الماركسيون على الليبراليين أن البرجوازيين والنبلاء ليسوا متساويين في قدراتهم الجسدية والعقلية ولكنهم متساوون في الحقوق تماماً كما يتساوى كافة الفقراء في افتقارهم للحقوق. أما المساواة الاقتصادية، فهي تعني المساواة في مراكز الإنتاج الاجتماعي، ففي المجتمع الليبرالي لا توجد مساواة اقتصادية، فالبعض يمتلك أرضاً ومصانع ورأسمال ويعيشون على العمل غير المدفوع للعمال وهم أقلية في المجتمع، وآخرون وهم الغالبية في المجتمع لا يملكون وسائل الإنتاج ويعيشون عن طريق قوة عملهم، فعلى الرغم من أن الفئتين يتمتعان بحقوق سياسية متساوية ولكنهما ليستا متساويتين في المكانة الاجتماعية. و باختصار فإن دعاة الماركسية عندما يتحدثون عن المساوة فهم يعنون على الدوام المساواة الاجتماعية.أي المساواة في المكانة الاجتماعية، وليست المساواة الجسدية والعقلية بين الأفراد.

وقد استندت كثير من أنظمة الحكم في العالم في مبادئها لهذه النظرية كالاتحاد السوفياتي والصين الشعبية وألمانيا الشرقية وبلغاريا وكوريا الشمالية وغيرها، وذلك قبل التحولات الواسعة في نظمها السياسية والاقتصادية في نهاية القرن العشرين.  وظهر في تلك الأنظمة قبل انهيار الشيوعية مصطلح الديمقراطية الاشتراكية، لأن الاشتراكية تحمي لأول مرة المعنى الحقيقي لمفهوم الديمقراطية، معطية مضموناً حقيقياً لمبادئ الديمقراطية الحرية والمساواة.   كما أن تطور الديمقراطية الاشتراكية هو عملية تاريخية تبدأ في اللحظة التي تنتقل فيها السلطة إلى الطبقة العاملة، وهو قانون موضوعي للتطور تجاه الشيوعية، وكلما ارتفع مستوى النضوج في مجتمع، كلما اتسعت الحقوق الديمقراطية، وتعاظمت المساواة بين الناس وحريات الأفراد.  وقد أشار المفكر لينين في مؤلفاته إلى أن الديمقراطية الاشتراكية قد تكون محددة بالضرورة نظراً لمستوى تطور القرى المنتجة والعلاقات الاجتماعية والوعي الاجتماعي، وعلى الرغم من أنها تحقق لأول مرة في التاريخ المساواة بين الناس فإنها غير قادرة على أن تقيم على الفور المساواة الفعلية بينهم، التي هي ممكنة فقط في ظل الشيوعية.

ومن ابرز التنظيمات السياسية التي أخذت بالتوجه الماركسي التنظيم السياسي في الاتحاد السوفياتي، حيث وضع النظرية الماركسية موضع التطبيق، إذ صدر في عام 1917 أول دستور ماركسي للبلاد تضمنت مقدمته إعلانات للحقوق، وصدر الدستور الثاني في عام 1924، ثم صدر الدستور الثالث في عام 1936 وبقي معمولاً به حتى صدور الدستور الرابع في عام 1977.  وقدح سجلت الدساتير الأربعة تراجعاً في الماركسية ونظمها عن كثير من المبادئ التي بنيت عليها افتراضات وبررت في نطاقها مفهومها للحرية والمساواة.  فقد أوجد دستور 1936 تعديلاً في الكيان الاجتماعي، إذ أقر بحق الملكية الصغيرة غير المستغلة، وحق الثورة والاقتراع السري في الانتخابات، ونص في المادة السادسة منه على حق المساواة في الحقوق والواجبات بين عمال المدن والفلاحين في الريف على أساس مبادئ الملكية الجماعية.  أما دستور 1977 فقد جاء في المادة 34 منه ما يلي “مواطنوا الاتحاد السوفياتي متساوون أمام القانون بصرف النظر عن النشأة والوضع الاجتماعي والمادي والانتماء القومي والعرقي والجنس والموقف من الدين ونوع العمل وطابعه ومكان الإقامة وغير ذلك من الاعتبارات”.

ويرى دعاة الماركسية أن مضمون دستور 1977 يعكس استقرار المبادئ التي تكمن خلف النظام الاقتصادي والسياسي للاشتراكية، وهذه المبادئ هي الملكية العامة لوسائل الإنتاج الرئيسة والمساواة بين الناس والشرعية الاشتراكية(26). إلا أن البعض يرى أن مضمون دستور 1977 يشكل تراجعاً عن المبادئ والأسس التي قامت عليها الماركسية في البداية(27). وحقيقة الأمر أنها لم تكن تطوراً ولا تراجعاً، وإنما كانت عبارة عن تراجيديا، فقد كانت سعياً متواصلاً لتجنب القدر المحتوم ولكن بدون طائل، فقد انهارت الأنظمة السياسية ذات التوجه الماركسي لأنها لم تقم على المساواة الفعلية بين المواطنين .

 المقصود بمبدأ المساواة في الشريعة الإسلامية

 

ما من حضارة أولت حقوق الإنسان العامة من العناية أكثر من الحضارة الإسلامية.  فمن المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية إنها تنبذ فكرة السيطرة وفكرة الخضوع في الشؤون الدينية وفي الشؤون الدنيوية. ففي نطاق العقيدة الدينية لم يقم ثمة سلطة وسيطة بين الخالق والمخلوق. إذ يتصل المخلوق بخالقه مباشرة فليس في الإسلام كنيسة أو كهنوت. وفي نطاق الشؤون الدنيوية فقد رفع الشرع الإسلامي لواء المبادئ الدستورية لنظام الحكم الإسلامي وأهمها الشورى والعدل والمساواة. وقد جاءت هذه المبادئ وسط قوم طغى عليهم الاستبداد وفشت فيهم الأثرة ودرجوا على التفاخر بالأنساب وأهدرت عندهم حقوق الضعفاء أمام الأقوياء، فاستبدلت بذلك كله تحريراً للأرقاء وصوناً لحقوق الضعفاء ومساواة بين الأجناس .

يقرر الإسلام أن الناس سواسية في القيمة الإنسانية المشتركة كأسنان المشط، وأنه لا تفاضل بينهم في هذا الصدد إلا على أساس كفايتهم وأعمالهم وما يقدمه كل منهم لربه ووطنه والمجتمع الإنساني. ففي الإسلام وشريعته قضاء تام على نظام الطوائف وأساليب التفرقة بين الطبقات وقواعد المفاضلة بين الناس تبعاً لاختلاف شعوبهم أو تفاوتهم في الأنساب والأحساب. وفي هذا يقول سبحانه وتعالى : “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”(29). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: أيها الناس إن ربكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى”.

إذن، لقد قرر الإسلام مبدأ المساواة الإنسانية ومبدأ العدل بين الجميع وترك الباب مفتوحاً للتفاضل بين الناس على أساس الجهد والعمل، كما وضع في الميزان قيماً أخرى غير القيم الاقتصادية أساساً للمفاضلة بين المسلمين تدور جميعها حول تقوى الله ومهابته وخسيته دون سواه .

ولا يفرض الإسلام مساواة حرفية أو مطلقة بين عباد الله في المال أو الرزق، لأن تحصيل المال والسعة في الرزق تابع لاستعدادات في الإنسان، وهذه ليست متساوية بعضها مع بعض.  والعدل المطلق يقتضي أن تتفاوت الأرزاق وأن يفضل بعضها بعضاً مع تحقيق العدالة الإنسانية بإتاحة الفرص المتساوية للجميع، فلا يقف أمام الفرد حسبه أو نسبه أو أصله أو لونه في سبيل إغلاق باب هذه الفرص أمامه.  يقول تعالى : “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”.  ويقول تعالى : “أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون”. من هنا نرى أن الله سبحانه وتعالى قد جعل من العلم والإيمان أساساً لرفع الناس بعضهم على بعض درجات.

وقد قرر الإسلام أن يعامل الناس جميعاً على قدم المساواة أمام القانون وفي الحقوق العامة دون تفرقة بين أمير أو إنسان عادي من العامة. فالشريعة الإسلامية لا تعرف حصانة لأحد في مواجهة القانون كما لا تخص فرداً أو فئة بقانون يخالف ما يطبق على باقي المسلمين وذلك عملاً بمبدأ وحدة القانون. فقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة بن زيد في فاطمة بنت الأسود المخزومية وكان قد وجب عليها حد السرقة لسرقتها قطيفة وحلياً فقال له: “أتشفع في حد من حدود الله”.  ثم قام الرسول صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس فقال : “إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”. وتجري الشريعة الإسلامية على الحاكم من الأحكام والأنظمة ما يجري على سائر الناس، إلا ما تقضي به مصلحة المجتمع وأمنه وسلامة الدولة وكيانها.  ويكاد النظام الإسلامي أن يكون هو النظام الوحيد الذي لا يستثني أحداً مهما كان شأنه من المثول أمام القضاء حتى لو كان الخليفة نفسه. كما يتساوى الأفراد في النظام الإسلامي في تقلد الوظائف طبقاً لكفاءاتهم وقدرتهم وليس لسبب آخر.اي أن تحقق المساواة يكون إذا تساوت الشروط اللازمة لكل وظيفة وهو ما يعبر عنه بالمساواة القانونية، يقول تعالى : “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”.

لقد ساوى الإسلام بين المسلمين في تحمل الأعباء العامة المقررة عليهم، وهي ما يقابل الضريبة في الوقت الحاضر، فهم يخرجون الزكاة بنسبة واحدة في النقد والثمار والغنم والزرع والركاز….وغير ذلك. وقد وصلت المساواة في الإسلام في أداء الزكاة أن قاتل الخليفة أبو بكر الصديق من منع الزكاة في حروب الردة. وقد حرص الإسلام كذلك على تقرير المساواة بين الناس في شؤون الاقتصاد وذلك بالعمل على تحقيق تكافؤ الفرص بينهم في هذه الشؤون وعلى تقليل الفروق بين الطبقات وتقريبها بعضها من بعض، فحرم تحريماً قطعياً جميع الوسائل أو الطرق التي تؤدي إلى تضخم رؤوس الأموال بابتزاز الناس أو غشهم أو التحكم في ضروريات حياتهم واستغلال عوزهم وحاجاتهم.  فقد حرم الربا وحرص على حقوق المعوزين في قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذرو ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين…………وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة”.  كما حرم الإسلام استغلال النفوذ والسلطان للحصول على المال، ولكنه أباح للإمام أن يتصرف في توزيع الأموال العامة على وجه يحقق التوازن الاقتصادي بين الطبقات ولو أدى ذلك إلى أن يخص ببعض الأموال طبقة دون أخرى.  يقول تعالى : “والله فضل بعضكم على بعض في الرزق”  ويقول تعالى : “ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم”.  كما يقول تعالى : “ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم”.

لقد وضع الإسلام نظاماً للضرائب يكفل المساواة ففرض الضرائب في عدة نواح من مظاهر النشاط الاقتصادي من أهمها الخراج والركاز (استخراج ما في باطن الأرض) والصيد والجمارك فضلاً عن ذلك فقد حبب الإسلام إلى الأغنياء التصدق بفضل أموالهم على الفقراء.

مما سبق نلاحظ أن الإسلام قد قضى على الامتيازات التي كانت مقررة لبعض الجماعات قبل الإسلام وبذلك حق المساواة القانونية بين الأفراد، وتبنى الإسلام المساواة الفعلية، فقد قرر من الناحية الاقتصادية مساعدة المحتاجين، وذلك لأن الأفراد غير متساويين من حيث القوى والمواهب الطبيعية.


المصدر: مبدأ المساواة أمام القانون في التشريع الأردني / دراسة مقارنة للدكتور أمين سلامة العضايلة

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*